لم يكن جنديًا ولا مسيحيًا لكنه اشتراها كأسيرة صليبية: قصة الحب الحقيقية بين «عيسى العوام» و«لويزا الطاهرة»
عدة ليالي قضياها معًا، إلا أنه أبدًا لم يلمس جـ ـسدها، كان هو نفسه مستغربًا من تصرفه، ها هي أمامه وهو يأبى أن يمسها، ومرت الأيام وغادر هو وحبيبته الفرنجية وعاد إلى بلاده مصر.
تسمر أمامها، والتقت أعينهما وتوقف الوقت من حولهما، لم يحتاجا أن ينطقا بأي كلام بل كانت الأعين تدير حديثًا من القلب للقلب لا يفهمه غيرهما، هو المصري الأسمر القادم من صعيد مصر وهي المرأة البيضاء المنتمية للفرنجة، وبينهما الحب الذي ولد في وقت هدنة لحرب وضعتهما على جانبين مفترقين، أعـ ـداء على الورق أحباء في القلوب، وأي وجـ ـع في قلبه كان وهو يراها سجينة أبناء عروبته، فراح عقله يتذكر يوم بدأت قصة الحب.. في زمن الحرب.
جمع الشاب الصعيدي محصوله من الكتان وقصد بلاد الشام، كما ذكر كتاب The Arabian Nights Encyclopedia، Volume 1، كان عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي في أوجهه وكانت الحرب ضد الفرنجة قائمة، إلا أن الهدنة كانت مطمئنة له لبيع محصوله في دمشق. وفي قلب سوريا التقى بها، البيضاء الساحرة التي أسرت قلبه واحـ ىـتلته ورفعت عليه أعلامها، فتاة فرنجية لا يعلم من أين ألقـ ـى القدر بها في طريقه، أما هي فألقت بكل أسـ ـلحتها أمام هجـ ـوم عينـ ـيه الساحرة واستسلمت، أي حرب تلك بين قلبين.
الزمن يمر والأوضاع تتغير، انتهت الهـ ـدنة وعاد العرب والفرنجة إلى الحرب، أي مكان لحب كهذا في زمن الحرب؟ ربما لم يكن ليسأل هذا السؤال إلا حين غادر إلى دمشق مجددًا، هذه المرة يتاجر في الأسيرات اللاتي اتخذن عبيدًا، ثم رآها، لا تزال بسحرها الجذاب ليخفق قلبه في لحظتها، كانت أسيرة سجينة من سجناء الفرنجة في بلاد الشام، أي مكان لحب كهذا في زمن الحرب؟ اليوم يسأل السؤال بالفعل، العربي والفرنجية السجينة، أحباء في أجواء عـ ـدائية، فهل يصح أن نحب أعـ ـدائنا؟
ربما كان بحاجة إلى ما يدله على الطريق، وأتى الدليل في صورة انفراجة، لقد أطلق سراح السجيـ ـنة وأصبحت حرة طليقة، فما عساها تفعل مع عاشـ ـقها المصري؟ اختارت الفرنجية أن تعتنق الإسلام وتتزوج حبيبها الأسمر، إذا كان بين بلادهما عـ ـداوة فقد اختارت أن توقع معاهدة سلام شخصية مع عـ ـدوها واختار هو أن يحتويها، لكن الاختيار الأصعب كان ليأتي لاحقًا.
مرت الأيام على الحبيبين وهما معًا، حتى اتفق السلطان والفرنجة على معاهدة بموجبها يتم إعادة الأسرى المسيحيين إلى بلادهم. انتقلت عيناها بين وجه زوجها ومشهد رحيل أبناء بلادها الأسرى، كان عليها الاختيار بين أحب ما لديها، بلادها وزوجها، وكان القرار صعـ ـبًا، ربما حاول زوجها أن يقنعها بالبقاء معه أو ربما اختارت هي أن تظل في أحضان حب عمرها، اختارته هو على بلادها، كان هو وطنها الجديد الذي سكنت إليه ولن ترحل عنه.
سنوات عديدة مرت على لقاء الحبيبين، وجلس الرجل ذو البشرة السمراء في بيته محاطًا بأبنائه ذوي البشرة البيضاء، «أبي، لماذا لونك مختلفًا عنا؟»، سأله أحد أبناءه، ليبتسم الأب ويروي لأبناءه قصته وأمهما.. قصة اثنين اختارا الحب على الحرب.. اختارا أن يخفق قلبهما بالعشق على أن يخفق بالكره.. اختارا أن يكون لهما قصتهما الخاصة التي احتفظ بها التاريخ، دون ذكر اسميهما، في عدة كتب من أهمها «ثمرات الأوراق»، لابن حجة الحماوي عام 1434.
قصة حب الشاب المصري والفرنجية تتطابق تمامًا مع قصة الحب في الفيلم الشهير «الناصر صلاح الدين»، التي صورت عيسى العوام، الجندي العربي المسيحي، وهو يقع في حب الفارسة الصليبية، «لويزا الطاهرة» كما أطلق عليها الفنان زكي طليمات في الفيلم، كما تتطابق تفصيلة طريقة أسرها وإطلاق سراحها لتقرر أن تبقى مع «العوام»، وهو ما جعل عدد من المؤرخين يعتقدون أنها أصل القصة الحقيقية التي تم تحريفها وتعديلها ضمن أحداث الفيلم لتتماشى مع الحدث العام دراميا.
لكن المثير وكما يذكر مؤرخين آخرين أن عيسى العوام هي شخصية حقيقية بالفعل حارب مع صلاح الدين لكنه لم يكن مسيحيًا بل كان مسلمًا لكن القاضى بهاء الدين بن شداد في كتابه «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية»، لم يذكر قصة وقوعه في حب الفارسة الصليبية التي ذكرها الفيلم.
أما قصة عيسى العوام الحقيقي، كما ذكرها كتاب «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية»، بدأت مع حصار الفرنجة لشواطئ عكا، فكان يستخدم مهاراته في الغطس ليكسر الحصار ويعبر حاملًا الكتب والنفقات، ولم يكن مسيحيًا كما ذكرنا من قبل، حسب الكتاب الذي عرفه قائلًا: «عوامًا مسلمًا يقال له عيسى وصل إلى البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غرة من العـ ـدو وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العـ ـدو».
كان ليلة آخرى من العشر الأواخر في شهر رجب تمر على «العوام» وعكا تحت الحصـ ـار، حين وقف يربط على وسطه ثلاثة أكياس تحمل ألف دينار، بالإضافة إلى «كتب للعسكر»، قبل أن يذهب في طريقه إلى البحر، كما اعتاد. مرت الأيام ولم يظهر «العوام» كما عادته، كانت الناس قد اعتادت منه أن يطير طيرًا كلما عاد إلى البلد ليعرف الناس بوصوله، لكن الطير تأخر فبدأ القلق يتسرب بين أبناء البلد، هل مات العوام؟
كانت الأيام تحمل الإجابة والبحر أيضًا، فبينما وقف البعض أمام شاطئ البحر، فإذ به يقذف بجـ ـسد شخص تفقدوه ليكتشفوا أنه ذاته عيسى العوام، أما على وسطه فوجدوا الدنانير الذهبية وما تبقى من الكتب سوى شمعها، ليتخذ الذهب نفقة لجنود المسلمين.
وقد وصف «شداد» الشاب «العوام» في كتابه قائلًا: «فما رؤي من أدى الأمانة في حال حياته وقد ردها في مماته إلا هذا الرجل وكان هذا في العشر الأواخر من رجب أيضًا».
المصدر المصري اليوم